عمان – في بلدنا الأردنّ كان لفئة معلّمي المدارس وأعضاء الهيئة التدريسيّة في الجامعات، الحكوميّة منها والخاصّة، شرف المشاركة في المعركة الضّارية والحرب الضروس التي نخوضها كما العالم أجمع ضد فيروس كورونا.
في تحرّك سريع اتّجهنا للتركيز على التعليم الإلكترونيّ الذي كان يُمارّس جزئيًّا في عدد من تلك المدارس والجامعات، وفي غضون أيام قلائل أعقبت بداية تفاقم الأزمة وجّهنا الأنظار نحو التعلّم عن بُعد، وصار هو الملاذ الآمن لضمان استمرار العمليّة التعليميّة التي تحظى باهتمام كبير على المستويين الرسميّ والشعبيّ؛ فطالب العلم اليوم هو عمود الدولة وعماد مستقبلها غدًا، وتلقّيه العلوم في جوّ علميّ آمن، وبيئة تعليميّة تتوفّر فيها وسائل التعليم المطلوبة في أعلى المستويات الممكنة أمر ملحّ وضروريّ، ولطالما تسابقت المدارس فيما بينها، وتنافست الجامعات فيما بينها كذلك لتحقيق ذلك الجوّ وتوفير تلك البيئة، وهما الأمران الّلذان فُقدا في ظلّ ظروف الحجر البيتيّ الراهنة بسبب أزمة كورونا؛ فكان لا بدّ من إيجاد بديل لهما، ولعلّ شيئًا من ذلك قد تحقّق فيما عُرف بالتعلّم عن بُعد.
لقد سعدتُ وزملائي في جامعتي جامعة الشرق الأوسط بخوض تجربة التعليم عن بُعد، وكانت تجربة ناجحة بكل المقاييس التي يمكن أن تُقاس بها تجربة من هذا النوع في مثل هذه الظروف، ويخوض مثل هذه التجربة زملاء لنا في جامعات أخرى، ومثلنا المعلّمون على مستوى المدارس الحكومية والخاصة. وتحقيقًا لذلك عقدت الجهات المعنيّة منذ اللحظة الأولى لطرح فكرة احتمالية اللجوء إلى هذه الطريقة في التعليم ورش عمل تدريبيّة عديدة، ثمّ تكاتفت الجهود لإطلاق منصّات إلكترونيّة للتعليم عن بُعد، وللتعلّم الذاتيّ عن بُعد، وأخرى لتدريب المعلّمين، وأُعدّت كذلك برامج وفيديوهات لتدريب الطلبة، ثمّ تنوّعت التطبيقات المطروحة بوصفها خيارات لتفعيل هذا النوع من التعليم، وفي ضوء الإمكانات المتاحة والوسائل المتوفرة تعدّدت وسائل التطبيق، وتفاعل معها المعلّمون، والطلبة، وكذلك الأهالي في البيوت بمسؤولية واعية، وبهمم عالية، وبعزائم وقّادة، تفاعلًا حقيقيًّا شغل وقتهم، وملأ أيام حصارهم الإلزاميّ الطوعيّ؛ لأنّ الإنسان أغلى ما يملك الأردنّ.
وبغض النظر عن ثغرات هنا، وإخفاقات هناك، وبعيدًا عن الخوض في تفاصيل تتعلّق بأبعاد عديدة لهذه التجربة، سرعان ما تعالت الأصوات لإعلان تحقيق النجاح المنشود في تسيير العمليّة التعليميّة عن بُعد، وإحراز التقدّم المطلوب فيها يومًا بعد يوم، وذلك في الواقع جزء لا يتجزّأ من النجاح المشهود للأردنّ في إدارة الأزمة برمّتها، لكنّنا في هذا الخِضمّ غفلنا أمرًا إخاله شديد الأهميّة، وتجاهلنا حقيقة لا يختلف عليها اثنان، وهي أنّ المعلّم ركن أساسيّ في العملية التعليميّة، يتجاوز دوره تجاه طلبته دور الوسيط أو ناقل المعرفة، ويتعدّاه إلى أمور أخرى كثيرة لا يمكن أن تحدث عن بُعد!!!.
خلال الأسبوعين الماضيين كان ابني أحمد يراقب انهماكي في التحضير لمحاضراتي الإلكترونيّة، ويتابع تنفيذي لها مع طلبتي، ويَرْقُب إصراري على إنجاح التجربة، وتحفيزي الطلبة على خوضها بجدّيّة والتزام وسعي للتعلّم، انسجامًا مع رؤيتي المنبثقة من رؤية جامعة الشرق الأوسط، وقد تشرّبتها عبر سني عملي فيها، وتمثّلتها منهجًا وطريقة أداء. ثمّ فاجأني ذات مساء بسؤاله لي إن كنت أفضّل تدريس الطلبة عن بُعد، على اللقاء بهم مواجهة ومشاهدة في قاعة المحاضرات، فأجبته بالنّفي، وطلب حينئذ توضيح السبب؛ لأنّ إجابتي لم تتفق مع حجم عملي الدؤوب في مجال تعليم طلبتي عن بُعد، ولا مع إصراري الدائم على التزامه وأخوته بهذا التوجّه الذي اتُّخذ بحزم على مستوى المدارس كما أسلفت؛ فكانت إجابتي عن سؤاله من وحي تعليقاته نفسه دون أن يشعر على دروسه التي كان يتلقاها عن بُعد أيضًا.
قلت له: دور المعلمين والمعلّمات يا بنيّ عظيم عظمة مهنة التعليم؛ فهم يصاحبون الطلبة في أهمّ سني حياتهم، ويقضون معهم جلّ أوقاتهم، ويمارسون معهم دور آبائهم وأمهاتهم، دور القدوة الصالحة، والمرشد التربويّ والنفسيّ، والموجّه المسلكيّ. لقد أصاب الشاعر يا بنيّ حين قال: كاد المعلّم أن يكون رسولا، رسالته رسالة علم ومعرفة، وتوجيه وإرشاد، وخبرة وتجربة، وضبط وانتظام. أمّا منهجه فمنهج حبّ ومودّة، وأخلاق واحترام، يقول بعينه أحيانًا ما يعجز عن توصيله اللسان، يربّت بقلب حنون على كتف طالب يحتاج الدعم والتشجيع فيدفعه للتغلب على الصعاب، ويصير من المتفوّقين. يكتشف المواهب ويحفز على الريادة والإبداع، يشارك طلبته أفراحهم وأحزانهم، ويرسم معهم أحلامهم ومستقبل أيامهم. المعلم يا بنيّ يحمل رسالة عظيمة تنوء عن حملها الشاشات، وتعجز عن نقلها السماعات. لطالما أحببنا التكنولوجيا، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، وبخاصّة في أزمتنا هذه؛ لأنها باتت وسائلنا الوحيدة المساعِدة على تحقيق التباعد الاجتماعيّ الكفيل بإذن الله بتخليصنا من هذا الوباء الذي يكاد يفتك بالعالم، لكنّها في كلّ الأحوال لن تؤدّي دور المعلّمين في قاعة الدرس، هناك تتلاقى الوجوه، وتتعانق العيون، وتتناغم الأفئدة، وتتعالى الأصوات، لتصنع الأمم مستقبلا رُسمت خطوطه الأولى خارج حدود البيوت بأنامل المعلّمين في دور العبادة والكتاتيب، ثم المدارس فالجامعات.
انشغل عني أحمد، لكنّ عقلي ظلّ منشغلًا بسؤاله، ولسان حالي يقول: هناك حقًّا ما لا يمكن أن يحدث عن بُعد!!!.